سورة الممتحنة - تفسير تفسير الألوسي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الممتحنة)


        


{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآَتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10)}
{يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ} بيان لحكم من يظهر الإيمان بعد بيان حكم فريقي الكافرين {إِذَا جَاءكُمُ المؤمنات} أي بحسب الظاهر {مهاجرات} من بين الكفار، وقرئ {مهاجرات} بالرفع على البدل من {المؤمنات} فكأنه قيل: إذا جاءكم {مهاجرات} {فامتحنوهن} فاختبروهن بما يغلب. على ظنكم موافقة قلوبهم لألسنتهن في الإيمان.
أخرج ابن المنذر. والطبراني في الكبير. وابن مردويه بسند حسن. وجماعة عن ابن عباس أنه قال في كيفية امتحانهن: كانت المرأة إذا جاءت النبي صلى الله عليه وسلم حلفها عمر رضي الله تعالى عنه بالله ما خرجت رغبة بأرض عن أرض. وبالله ما خرجت من بغض زوج. وبالله ما خرجت التماس دنيا. وبالله ما خرجت إلا حبًا لله ورسوله، وفي رواية عنه أيضًا كانت محنة النساء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر عمر بن الخطاب فقال: قل لهن إن رسول الله عليه الصلاة والسلام بايعكن على أن لا تشركن بالله شيئًا إلخ {الله أَعْلَمُ} من كل أحد أو منكم {بإيمانهن} فإنه سبحانه هو المطلع على ما في قلوبهن، والجملة اعتراض {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ} أي ظننتموهن ظنًا قويًا يشبه العلم بعد الامتحان {مؤمنات} في نفس الأمر {فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار} أي إلى أزواجهن الكفرة لقوله تعالى: {لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} فإنه تعليل للنهي عن رجعهن إليهم، والجملة الأولى: لبيان الفرقة الثابتة وتحقق زوال النكاح الأول، والثانية: لبيان امتناع ما يستأنف ويستقبل من النكاح، ويشعر بذلك التعبير بالاسم في الأولى والفعل في الثانية.
وقال الطيبي في وجه اختلاف التعبيرين: إنه أسندت الصفة المشبهة إلى ضمير المؤمنات في الجملة الأولى إعلامًا بأن هذا الحكم يعني نفي الحل ثابت فيهن لا يجوز فيه الإخلال والتغيير من جانبهن، وأسند الفعل إلى ضمير الكفار إيذانًا بأن ذلك الحكم مستمر الامتناع في الأزمنة المستقبلة لكنه قابل للتغيير باستبدال الهدى بالضلال، وجوز أن يكون ذلك تكريرًا للتأكيد والمبالغة في الحرمة وقطع العلاقة، وفيه من أنواع البديع ما سماه بعضهم بالعكس والتبديل كالذي في قوله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} [البقرة: 187] ولعل الأول أولى، واستدل بالآية على أن الكفار مخاطبون بالفروع كما في الانتصاف، والقول: بأن المخاطب في حق المؤمنة هي. وفي حق الكافر الأئمة عنى أنهم مخاطبون بأن يمنعوا ذلك الفعل من الوقوع لا يخفى حاله، وقرأ طلحة لا هن يحللن لهم.
{وَءاتُوهُم مَّا أَنفَقُواْ} أي وأعطوا أزواجهن مثل ما دفعوا إليهن من المهور قيل: وجوبًا، وقيل: ندبًا، روى أنه صلى الله عليه وسلم عام الحديبية أمر عليًا كرم الله تعالى وجهه أن يكتب بالصلح فكتب: باسمك اللهم هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين تأمن فيه الناس ويكف بعضهم عن بعض على أن من أتى محمدًا من قريش بغير إذن وليه رده عليه، ومن جاء قريشًا من محمد لم يردّوه عليه وأن بيننا عيبة مكفوفة، وأن لا إسلال ولا إغلال، وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه، فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا جندل بن سهيل ولم يأت رسول الله عليه الصلاة والسلام أحد من الرجال إلا رده في مدّة العهد وإن كان مسلمًا، ثم جاء المؤمنات مهاجرات، وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت أول المهاجرات، فخرج أخواها عمار.
والوليد حتى قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلماه في أمرها ليردها عليه الصلاة والسلام إلى قريش فنزلت الآية فلم يردّها عليه الصلاة والسلام ثم أنكحها صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل أنه جاءت امرأة تسمى سبيعة بنت الحرث الأسلمية مؤمنة، وكانت تحت صيفي بن الراهب وهو مشرك من أهل مكة فطلبوا ردها فأنزل الله تعالى الآية، وروي أنها كانت تحت مسافر المخزومي وأنه أعطى ما أنفق، وتزوجها عمر رضي الله تعالى عنه، وفي رواية أنها نزلت في أميمة بنت بشر امرأة من بني عمرو بن عون كانت تحت أبي حسان بن الدحداحة هاجرت مؤمنة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلبوا ردّها فنزلت الآية فلم يردها عليه الصلاة والسلام، وتزوجها سهيل بن صيف فولدت له عبد الله بن سهيل، ولعل سبب النزول متعدد وأيًّا مّا كان فالآية على ما قيل: نزلت بيانًا لأن الشرط في كتاب المصالحة إنما كان في الرجال دون النساء، وتراخي المخصص عن العام جائز عند الجبائي ومن وافقه، ونسب للزمخشري أن ذلك من تأخير بيان المجمل لأنه لا يقول بعموم تلك الألفاظ بل يجعلها مطلقات، والحمل على العموم والخصوص بحسب المقام، والحنفية يجوزونه لا يقال: إنه شبه التأخير عن وقت الحاجة وهو غير جائز عند الجميع لأن وقت الحاجة أي العمل بالخطاب كان بعد مجىء المهاجرات وطلب ردهن لا حين جرت المهادنة مع قريش، وهذا ما ذهب إليه بعض الشافعية أيضًا، ومنهم من زعم أن التعميم كان منه صلى الله عليه وسلم عن اجتهاد أثيب عليه بأجر واحد ولم يقر عليه، ومنهم من وافق جمهور الحنفية على النسخ لا التخصيص، فمن جوز منهم نسخ السنة بالكتاب قال: نسخ بالآية، ومن لم يجوز قال: بالسنة أي امتناعه صلى الله عليه وسلم من الرد ووردت الآية مقررة لفعله عليه الصلاة والسلام.
وعن الضحاك كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين عهد أن لا تأتيك منا امرأة ليست على دينك إلا رددتها إلينا فإن دخلت في دينك ولها زوج أن ترد على زوجها الذي أنفق عليها، وللنبي صلى الله عليه وسلم من الشرط مثل ذلك، وعليه فالآية موافقة لما وقع عليه العهد لكن أخرج أبو داود في ناسخه. وابن جرير. وغيرهما عن قتادة أنه نسخ هذا العهد وهذا الحكم يعني إيتاء الأزواج ما أنفقوا براءة، أما نسخ العهد فلما أمر فيها من النبذ، وأما نسخ الحكم فلأن الحكم فرع العهد فإذا نسخ نسخ، والذي عليه معظم الشافعية أن الغرامة لأزواجهن غير ثابتة، وبين ذلك في الكشف على القول بنسخ رد المرأة، والقول بالتخصيص، والقول: بأن التعميم كان عن اجتهاد لم يقر عليه صلى الله عليه وسلم، ثم قال: وأما على قول الضحاك أي السابق فهو مشكل، ووجهه أنه حكم في مخصوصين فلا يعم غير تلك الوقعة على أنه عز وجل خص الحكم بالمهاجرين ولم يبق بعد الفتح هجرة كما ثبت في الصحيح فلا يبقى الحكم {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ} أي في نكاحهن حيث حال إسلامهن بينهن وبين أزواجهن الكفار {إِذَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} أي وقت إيتائكم إياهن مهورهن فإذا لمجرد الظرفية، ويجوز كونها شرطية وجوابها مقدر بدليل ما قبل، وعلى التقديرين يفهم اشتراط إيتاء المهور في نفي الجناح في نكاحهن، وليس المراد بإيتاء الأجور إعطاءها بالفعل بل التزامها والتعهد بها، وظاهر هذا مع ما تقدم من قوله تعالى: {ياأيها الذين ءامَنُواْ} أن هناك إيتاء إلى الأزواج وإيتاء إليهن فلا يقوم ما أوتي إلى الأزواج مقام مهورهن بل لابد مع ذلك من إصداقهن، وقيل: لا يخلو إما أن يراد بالأجور ما كان يدفع إليهن ليدفعنه إلى أزواجهن فيشترط في إباحة تزويجهن تقديم أدائه، وإما أن يراد أن ذلك إذا دفع إليهن على سبيل القرض ثم تزوجن على ذلك لم يكن به بأس، وإما أن يبين إليهم أن ما أعطي لأزواجهن لا يقوم مقام المهر، وهذا ما ذكرناه أولًا من الظاهر وهو الأصح في الحكم، والوجهان الآخران ضعيفان فقهًا ولفظًا.
واحتج أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه بالآية على أن أحد الزوجين إذا خرج من دار الحرب مسلمًا أو بذمة وبقي الآخر حربيًا وقعت الفرقة. ولا يرى العدة على المهاجرة ويبيح نكاحها من غير عدة إلا أن تكون حاملًا، وهذا للحديث المشهور الذي تجوز ثله الزيادة على النص:«من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقين ماءه زرع غيره» ومذهب الشافعي على ما قيل: إنه لا تقع الفرقة إلا بإسلامها، وأما جرد الخروج فلا فان أسلمت قبل الدخول تنجزت الفرقة وبعد الدخول توقفت إلى انقضاء العدة، وتعقب الاحتجاج بأن الآية لا تدل على مجموع ما ذكر، نعم قد احتج بها على عدم العدة في الفرقة بخروج المرأة إلينا من دار الحرب مسلمة، ووجه بأنه سبحانه نفى الجناح من كل وجه في نكاح المهاجرات بعد إيتاء المهر، ولم يقيد جل شأنه ضي العدة فلولا أن الفرقة جرد الوصول إلى دار الإسلام لكان الجناح ثابتًا، ومع هذا فقد قيل: الجواب على أصل الشافعية أن رفع الإطلاق ليس بنسخ ظاهر لأن عدم التعرض ليس تعرضًا للعدم، وأما على أصل الحنفية فكسائر الموانع، وكونها حاملًا بالاتفاق فتأمل {وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر} جمع كافرة، وجمع فاعلة على فواعل مطرد وهو وصف جماعة الإناث، وقال الكرخي: {الكوافر} يشمل الإناث والذكور، فقال له الفارسي: النحويون لا يرون هذا إلا في الإناث جمع كافرة، فقال: أليس يقال: طائفة كافرة وفرقة كافرة، قال الفارسي: فبهت، وفيه أنه لا يقال: كافرة في وصف الذكور إلا تابعًا للموصوف، أو يكون محذوفًا مرادًا أما بغير ذلك فلا تجمع فاعلة على فواعل إلا ويكون للمؤنث قاله أبو حيان، وعصم جمع عصمة وهي ما يعتصم به من عقد وسبب، والمراد نهي المؤمنين عن أن يكون بينهم وبين الزوجات المشركات الباقية في دار الحرب علقة من علق الزوجية أصلًا حتى لا يمنع إحداهن نكاح خامسة أو نكاح أختها في العدة بناءًا على أنه لا عدة لهن؛ قال ابن عباس: من كانت له امرأة كافرة كة فلا يعتدن بها من نسائه لأن اختلاف الدارين قطع عصمتها منه، وأخرج سعيد بن منصور. وابن المنذر عن إبراهيم النخعي أنه قال: نزل قوله تعالى: {وَلاَ تُمْسِكُواْ} إلخ في المرأة من المسلمين تلحق بالمشركين فلا يمسك زوجها بعصمتها قد برىء منها.
وأخرج ابن أبي شيبة عن مجاهد. وسعيد بن جبير نحوه، وفي رواية أخرى عن مجاهد أنه قال: أمرهم سبحانه بطلاق الباقيات مع الكفار ومفارقتهن، ويروى أن عمر رضي الله تعالى عنه طلق لذلك امرأته فاطمة أخت أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة المخزومي فتزوجها معاوية بن أبي سفيان وامرأته كلثوم بنت جرول الخزاعي فتزوجها أبو جهم بن حذيفة العدوي، وكذا طلق طلحة زوجته أروى بنت ربيعة، وتعقب ذلك بأنه بظاهره مخالف لمذهب الحنفية. والشافعية، أما عند الحنفية فلأن الفرقة بنفس الوصول إلى دار الإسلام، وأما عند الشافعية فلأن الطلاق موقوف إن جمعتهما العدة تبين وقوعه من حيث اللفظ، وإلا فالبينونة بواسطة بقاء المرأة في الكفر، فظاهر الآية لا يدل على ما في هذه الرواية، وقرأ أبو عمرو.
ومجاهد بخلاف عنه. وابن جبير. والحسن. والأعرج {تُمْسِكُواْ} مضارع مسك مشددًا، والحسن أيضًا. وابن أبي ليلى. وابن عامر في رواية عبد الحميد. وأبو عمرو في رواية معاذ {تُمْسِكُواْ} مضارع تمسك محذوف إحدى التاءين، والأصل تتمسكوا.
وقرأ الحسن أيضًا {تُمْسِكُواْ} بكسر السين مضارع مسك ثلاثيًا {قُلْ مَا أَنفَقْتُم} أي واسألوا الكفار مهور نسائكم اللاحقات بهم {وَلْيَسْئَلُواْ مَا أَنفَقُواْ} أي وليسألكم الكفار مهور نسائهم المهاجرات إليكم، وظاهره أمر الكفار، وهو من باب {وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة: 123] فهو أمر للمؤمنين بالأداء مجازًا، وقيل: المراد التسوية {ذلكم} الذي ذكر {حُكْمُ الله} أي فاتبعوه، وقوله عز وجل: {يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} كلام مستأنف أو حال من {حُكْمُ} بحذف الضمير العائد إليه، وهو مفعول مطلق أي يحكمه الله تعالى بينكم، أو العائد إليه الضمير المستتر في {يُحْكِمُ} بجعل الحكم حاكمًا مبالغة كأن الحكم لقوته وظهوره غير محتاج لحاكم آخر {والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} يشرع ما تقتضيه الحكمة البالغة، روي أنه لما تقرر هذا الحكم أدى المؤمنون مما أمروا به من مهور المهاجرات إلى أزواجهن، وأبى المشركون أن يؤدوا شيئًا من مهور الكوافر إلى أزواجهن المؤمنين فنزل قوله تعالى:


{وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآَتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)}
{وَإِن فَاتَكُمْ} أي سبقكم وانفلت منكم {شَىْء مّنْ أزواجكم إِلَى الكفار} أي أحد من أزواجكم، وقرئ كذلك، وإيقاع {شَىْء} موقعه لزيادة التعميم وشمول محقر الجنس نصًا، وفي الكشف لك أن تقول: أريد التحقير والتهوين على المسلمين لأن من فات من أزواجهم إلى الكفار يستحق الهون والهوان، وكانت الفائتات ستًا على ما نقله في الكشاف وفصله، أو إن {فَاتَكُمْ شَىْء} من مهور أزواجكم على أن {شَىْء} مستعمل في غير العقلاء حقيقة، و{مِنْ} ابتدائية لا بيانية كما في الوجه الأول {فعاقبتم} من العقبة لا من العقاب، وهي في الأصل النوبة في ركوب أحد الرفيقين على دابة لهما والآخر بعده أي فجاءت عقبتكم أي نوبتكم من أداء المهر شبه ما حكم به على المسلمين والكافرين من أداء هؤلاء مهور نساء أولئك تارة وأداء أولئك مهور نساء هؤلاء أخرى، أو شبه الحكم بالأداء المذكور بأمر يتعاقبون فيه كما يتعاقب في الركوب، وحاصل المعنى إن لحق أحد من أزواجكم بالكفار أو فاتكم شيء من مهورهن ولزمكم أداء المهر كما لزم الكفار.
{فَاتُواْ الذين ذَهَبَتْ أزواجهم مّثْلَ مَا أَنفَقُواْ} من مهر المهاجرة التي تزوجتموها ولا تؤتوه زوجها الكافر ليكون قصاصًا، ويعلم مما ذكرنا أن عاقب لا يقتضي المشاركة، وهذا كما تقول: إبل معاقبة ترعى الحمض تارة وغيره أخرى ولا تريد أنها تعاقب غيرها من الإبل في ذلك، وحمل الآية على هذا المعنى يوافق ما روي عن الزهري أنه قال: يعطي من لحقت زوجته بالكفار من صداق من لحق بالمسلمين من زوجاتهم.
وعن الزجاج أن معنى {فعاقبتم} فغنمتم، وحقيقته فأصبتم في القتال بعقوبة حتى غنمتم فكأنه قيل: {وَإِن فَاتَكُمْ شَىْء مّنْ أزواجكم إِلَى الكفار} ولم يؤدوا إليكم مهورهن فغنمتم منهم {فَاتُواْ الذين ذَهَبَتْ أزواجهم مّثْلَ مَا أَنفَقُواْ} من الغنيمة وهذا هو الوجه دون ما سبق، وقد كان صلى الله عليه وسلم كما روي عن ابن عباس يعطي الذي ذهبت زوجته من الغنيمة قبل أن تخمس المهر ولا ينقص من حقه شيئًا، وقال ابن جني: روينا عن قطرب أنه قال: {فعاقبتم} فأصبتم عقبًا منهم يقال: عاقب الرجل شيئًا إذا أخذ شيئًا وهو في المعنى كالوجه قبله.
وقرأ مجاهد. والزهري. والأعرج. وعكرمة. وحميد. وأبو حيوة. والزعفراني فعقبتم بتشديد القاف من عقبه إذا قفاه لأن كل واحد من المتعاقبين يقفى صاحبه، والزهري. والأعرج. وأبو حيوة أيضًا. والنخعي. وابن وثاب بخلاف عنه فعقبتم بفتح القاف وتخفيفها، والزهري. والنخعي أيضًا بالكسر والتخفيف، ومجاهد أيضًا فأعقبتم أي دخلتم في العقبة؛ وفسر الزجاج هذه القراآت الأربعة بأن المعنى فكانت العقبى لكم أي الغلبة والنصر حتى غنمتم لأنها العاقبة التي تستحق أن تسمى عاقبة {واتقوا الله الذى أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ} فإن الإيمان به عز وجل يقتضي التقوى منه سبحانه وتعالى:


{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)}
{مُؤْمِنُونَ يأَيُّهَا النبى إِذَا جَاءكَ المؤمنات يُبَايِعْنَكَ} أي مبايعات لك أي قاصدات للمبايعة {على أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بالله شَيْئًا} أي شيئًا من الأشياء أو شيئًا من الإشراك {وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أولادهن} أريد به على ما قال غير واحد: وأد البنات بالقرينة الخارجية، وإن كان الأولاد أعم منهن، وجوز إبقاءه على ظاهره فإن العرب كانت تفعل ذلك من أجل الفقر والفاقة، وانظر هل يجوز حمل هذا النهي على ما يعم ذلك، وإسقاط الحمل بعد أن ينفخ فيه الروح، وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه. والحسن. والسلمي {وَلاَ يَقْتُلْنَ} بالتشديد {وَلاَ يَأْتِينَ ببهتان يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ}.
قال الفراء: كانت المرأة في الجاهلية تلتقط المولود فتقول: هذا وليد منك فذلك البهتان المفترى بين أيديهن وأرجلهن، وذلك أن الولد إذا وضعته الأم سقط بين يديها ورجليها، وفي الكشاف كني بالبهتان المفترى بين يديها ورجليها عن الولد الذي تلصقه بزوجها كذبًا لأن بطنها الذي تحمله فيه بين اليدين وفرجها الذي تلده به بين الرجلين، وقيل: كني بذلك عن الولد الدعي لأن اللواتي كن يظهرن البطون لأزواجهن في بدء الحال إنما فعلن ذلك امتنانًا عليهم، وكن يبدين في ثاني الحال عند الطلق حين يضعن الحمل بين أرجلهن أنهن ولدن لهم فنهين عن ذلك الذي هو من شعار الجاهلية المنافي لشعار المسلمات تصويرًا لتينك الحالتين وتهجينًا لما كن يفعلنه، وأيًا مّا كان فحمل الآية على ما ذكر هو الذي ذهب إليه الأكثرون، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقال بعض الأجلة: معناه لا يأتين ببهتان من قبل أنفسهن، واليد والرجل كناية عن الذات لأن معظم الأفعال بهما، ولذا قيل للمعاقب بجناية قولية: هذا ما كسبت يداك، أو معناه لا يأتين ببهتان ينشئنه في ضمائرهن وقلوبهن، والقلب مقره بين الأيدي والأرجل، والكلام على الأول: كناية عن إلقاء البهتان من تلقاء أنفسهن، وعلى الثاني: كناية عن كون البهتان من دخيلة قلوبهن المبنية على الخبث الباطني.
وقال الخطابي: معناه لا يبهتن الناس كفاحًا ومواجهة كما يقال للأمر بحضرتك: إنه بين يديك، ورد بأنهم وإن كنوا عن الحاضر بما ذكر لكن لا يقال فيه: هو بين رجليك، وهو وارد لو ذكرت الأرجل وحدها أما إذا ذكرت مع الأيدي تبعًا فلا، والكلام قيل: كناية عن خرق جلباب الحياء، والمراد النهي عن القذف، ويدخل فيه الكذب والغيبة، وروي عن الضحاك حمل ذلك على القذف، وقيل: بين أيديهن قبلة أو جسة وأرجلهن الجماع، وقيل: بين أيديهن ألسنتهن بالنميمة، وأرجلهن فروجهن بالجماع، وهو وكذا ما قبله كما ترى.
وقيل: البهتان السحر، وللنساء ميل إليه جدًا فنهين عنه وليس بشيء {وَلاَ يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍ} أي فيما تأمرهن به من معروف وتنهاهن عنه من منكر، والتقييد بالمعروف مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يأمر إلا به للتنبيه على أنه لا يجوز طاعة مخلوق في معصية الخالق، ويرد به على من زعم من الجهلة أن طاعة أولى الأمر لازمة مطلقًا، وخص بعضهم هذا المعروف بترك النياحة لما أخرج الإمام أحمد. والترمذي وحسنه. وابن ماجه. وغيرهم عن أم سلمة الأنصارية قالت امرأة من هذه النسوة: ما هذا المعروف الذي لا ينبغي لنا أن نعصيك فيه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «لا تنحن» الحديث، ونحوه من الأخبار الظاهرة في تخصيصه بما ذكر كثير، والحق العموم، وما ذكر في الأخبار من باب الاقتصار على بعض أفراد العام لنكتة، ويشهد للعموم قول ابن عباس. وأنس. وزيد بن أسلم: هو النوح. وشق الجيوب. ووشم الوجوه. ووصل الشعر. وغير ذلك من أوامر الشريعة فرضها وندبها، وتخصيص الأمور المعدودة بالذكر في حقهنّ لكثرة وقوعها فيما بينهن مع اختصاص بعضها بهن على ما سمعت أولا {فَبَايِعْهُنَّ} بضمان الثواب على الوفاء بهذه الأشياء، وتقييد مبايعتهن بما ذكر من مجيئهن لحثهن على المسارعة إليها مع كما الرغبة فيها من غير دعوة لهن إليها {واستغفر لَهُنَّ الله} زيادة على ما في ضمن المبايعة من ضمان الثواب {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي مبالغ جل شأنه في المغفرة والرحمة فيغفر عز وجل لهن ويرحمهن إذا وفين بما باعن عليه؛ وهذه الآية نزلت على ما أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل يوم الفتح فبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجال على الصفا. وعمر رضي الله تعالى عنه يبايع النساء تحتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء أنه عليه الصلاة والسلام بايع أيضًا بنفسه الكريمة.
أخرج الإمام أحمد. والنسائي. وابن ماجه. والترمذي وصحهه. وغيرهم عن أميمة بنت رقية قالت: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم لنبايعه فأخذ علينا ما في القرآن أن لا نشرك بالله شيئًا حتى بلغ {وَلاَ يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍ} فقال: «فيما استطعن وأطقن قلنا: الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا يا رسول الله ألا تصافحنا؟ قال: إني لا أصافح النساء إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة».
وأخرج سعيد بن منصور. وابن سعد عن الشعبي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بايع النساء وضع على يده ثوبًا؛ وفي بعض الروايات أنه صلى الله عليه وسلم يبايعهن وبين يديه وأيديهن ثوب قطوى، ومن يثبت ذلك يقول بالمصافحة وقت المبايعة، والأشهر المعول عليه أن لا مصافحة، أخرج ابن سعد.
وابن مردويه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بايع النساء دعا بقدح من ماء فغمس يده فيه ثم يغمس أيديهن فيه؛ وكأن هذا بدل المصافحة والله تعالى أعلم بصحته.
والمبايعة وقعت غير مرة ووقعت في مكة بعد الفتح وفي المدينة؛ وممن بايعنه عليه الصلاة والسلام في مكة هند بنت عتبة زوج أبي سفيان، ففي حديث أسماء بنت يزيد بن السكن كنت في النسوة المبايعات وكانت هند بنت عتبة في النساء فقرأ صلى الله عليه وسلم عليهن الآية فلما قال: {على أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بالله شَيْئًا} قالت هند: وكيف نطمع أن يقبل منا ما لم يقبله من الرجال؟ يعني أن هذا بين لزومه فلماقال: {وَلاَ يَسْرِقْنَ} قالت: والله إني لأصيب الهنة من مال أبي سفيان لا يدري أيحل لي ذلك؟ فقال أبو سفيان: ما أصبت من شيء فيما مضى وفيما غبر هو لك حلال؛ فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفها فقال لها: وإنك لهند بنت عتبة؟ قالت: نعم فاعف عما سلف يا نبي الله عفا الله عنك، فقال: ولا {يَزْنِينَ} فقالت: أو تزني الحرة؟ تريد أن الزنا في الإماء بناءًا على ما كان في الجاهلية من أن الحرة لا تزني غالبًا وإنما يزني في الغالب الإماء، وإنما قيد بالغالب لما قيل: إن ذوات الريات كن حرائر، فقال: {وَلاَ يَقْتُلْنَ أولادهن} فقالت: ربيناهم صغارًا وقتلتهم كبارًا تعني ما كان من أمر ابنها حنظلة بن أبي سفيان فإنه قتل يوم بدر فضحك عمر حتى استلقى وتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رواية أنها قالت: قتلت الآباء وتوصينا بالأولاد؟ا فضحك صلى الله عليه وسلم، فقال: {وَلاَ يَأْتِينَ ببهتان} فقالت: والله إن البهتان لأمر قبيح ولا يأمر الله تعالى إلا بالرشد ومكارم الأخلاق، فقال: {وَلاَ يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍ} فقالت: والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء وكأن هذا منها دون غيرها من النساء لمكان أم حبيبة رضي الله تعالى عنها من رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أنها حديثة عهد بجاهلية، ويروى أن أول من بايع النبي صلى الله عليه وسلم من النساء أم سعد بن معاذ. وكبشة بنت رافع مع نسوة أخر رضي الله تعالى عنهن.

1 | 2 | 3 | 4 | 5